لأكثر من أربعة عقود تعودنا نحن في منطقة شرق المتوسط، وجود القطع الحربية والأساطيل الأميركية التي أحكمت قبضتها بالسيطرة على أمن مياه البحر والمسارات والمضائق بغرض تأمين المصالح الأميركية الأوروبية الحيوية كما أن تلك القطع البحرية الأميركية لعبت دوراً رئيسياً في ضرب بعض الأوطان العربية مثل العراق وليبيا ولبنان وسوريه واستخدمت تلك القطع الأميركية المتمركزة في عرض البحر بهدف فرض السياسات والإرادة الأميركية على معظم الدول المطلة على البحر المتوسط.
أما اليوم في ظل صعود روسيا واستعادة دورها على الساحة الدولية بالتكافل مع سورية وإيران، فإن هذا الأمر الذي شكل محوراً جديداً أسهم في تسخين الحرب الباردة مع أميركا بعد أن كانت تلك محصورة بين أميركا والاتحاد السوفييتي لعقود خلت ما ترك أثراً واضحاً تميز بتراجع النفوذ الأميركي في المنطقة وخاصة في سوريه لمصلحة روسيا.
بعدما شهدت المنطقة ولم تزل دورة من العنف غير المسبوق البستنا ثوب الحروب المتنقلة بعد زرع وتمويل وتدريب فصائل إرهابية في كل من العراق وليبيا ولبنان وسوريه مزينة بالفوضى العارمة ناشرة القتل والذبح والتهجير والخوف اعتقدت أميركا أنها نجحت في امتلاك زمام الأمور عبر تحريك تلك الفصائل الإرهابية حسب مصالحها ومشيئتها وحدها لا شريك لها.
منذ اندلاع الأحداث في سوريه عام 2011 بنت أميركا إستراتيجيتها في المنطقة وفي سوريه على وجه الخصوص على أساس تقارير استخبارية موثقه صاغتها أجهزة البنتاغون مستندة إلى تقارير السفارة الأميركية في دمشق صدق عليها السفير الأميركي في سورية آنذاك روبرت فورد جلها تفيد أن سوريه لن تستطيع الصمود أمام أحداث مفتعله تقودها تلك التنظيمات الإرهابية المزروعة والممولة أميركيا وخليجياً.
لكن المفاجأة الكبرى والصادمة التي واجهت أميركا وتنظيماتها الإرهابية هي الصمود الأسطوري للجيش العربي السوري وصمود الدبلوماسية السورية بوجه هذه الهجمة الشرسة بعدما اشترك في حياكة المؤامرة على سوريه أكثر من 88 دولة ووهذا ما دفع السفير الأميركي السابق في دمشق روبرت فورد للاعتراف صراحة بفشل استخباري أميركي صريح في سورية قائلاً إن اللعبة في سوريه انتهت وأن الرئيس بشار الأسد سيكون صاحب الانتصار الكبير، معترفاً أن كل التقديرات الأميركية كانت فاشلة نتيجة الخطأ في إدراك مدى صلابة العقيدة والانتماء في مختلف قطاعات الجيش العربي السوري إضافة إلى جهل تام في معرفة التركيبة في الجسم الدبلوماسي والقيادي السوري.
صمدت سورية وحدها أربع سنوات متواصلة كانت تواجه أعتى صنوف الحروب العسكرية والاقتصادية المدمرة حتى أن دولاً كثيرة ومنها أميركا والخليج النفطي إضافة إلى بعض الجهات اللبنانية المشاركة في المؤامرة على سورية حددت مواعيد لا تتعدى الأشهر والأسابيع لسقوط سوريه ومن ثم ضمان انقلاب المشهد في المنطقة لمصلحة أميركا وحلفائها.
في نهايات العام 2014 قررت روسيا برئاسة فلاديمير بوتين الدخول عسكريا إلى سوريه لتبدأ أولى عملياتها العسكرية في 2015 بهدف مساعدة الحليف الإستراتيجي في محاربة الإرهاب المتفشي وحفاظاً على مصالح روسيا في المنطقة بالنظر إلى ما تمثله سوريه في المنطقة من موقع جيوسياسي بالغ الأهمية.
أميركا لم يعجبها التدخل الروسي في سورية معتبرة أن مشاركة روسية في محاربة التنظيمات الإرهابية المزروعة في سوريه يهدد سير المخططات الأميركية ليس في سوريه فحسب بل في المنطقة برمتها فأوعزت إلى أردوغان تنفيذ مهمة إسقاط السوخوي الروسية في تشرين الثاني 2015 وذلك لضرب الهيبة الروسية وبهدف ردعها عن الاستمرار في حربها ضد التنظيمات الإرهابية إذا أمكن.
لكن فلاديمير بوتين وقف موقفاً حازماً ونشبت أزمة مستعصية بين تركيا وروسيا كادت تؤدي إلى صدام مباشر بين الطرفين معلناً الاستمرار في مهمته في سوريه بعد أن فرض على الشركات التركية عقوبات اقتصادية سياحية حادة أحس الرئيس التركي رجب أردوغان بثقل تأثيرها فما كان منه إلا اللجوء لطلب الصفح من بوتين بعد تقديم الاعتذار عن حادثة إسقاط الطائرة الروسية.
فشلت أميركا في جر روسيا لحرب جانبية وصارت تركيا أقرب إلى روسيا وإيران متجنبة المزيد من التوغل في دعم الإرهاب في سوريه ما اضطر أميركا إلى الدخول مباشرة عسكرياً إلى سوريه وأقامت العديد من القواعد في الأطراف السورية بهدف قطع التواصل مع العراق والسيطرة على منابع الطاقة السورية.
لم تنفع التهديدات الأميركية بوقف الاندفاعة الروسية لتحرير حلب مستعيدة التهديد بملف استعمال الأسلحة الكيميائية إلا أن التصميم السوري الروسي أفضى إلى تحرير حلب وتدمر وريف دمشق إلى أن جاء دور منطقة الغوطة المهمة نظراً لموقع الغوطة القريب من العاصمة دمشق امتداداً إلى مناطق التماس مع العدو الصهيوني فما كان من أميركا إلا أن استعادت عرض مسرحية استعمال الأسلحة الكيميائية لكن بإخراج فاشل ومفضوح.
وبإصرار وتصميم حرر الجيش العربي السوري كامل منطقة الغوطة وصولا إلى القنيطرة ورفع العلم السوري بوسط ساحتها ما أرعب العدو الإسرائيلي الذي اعترف صراحة بأنه خسر الحرب في سوريه وأن الجيش العربي السوري عائد إلى جبهات الجولان بشكل أقوى وبعزيمة أكبر وهذا ما حصل.
انقلب المشهد برمته فأميركا انكفأت إلى الداخل والعدو الإسرائيلي يدرك أنه اضعف من أي وقت مضى وأنه أضحى يواجه أزمة وجود لا أزمة حدود، وتركيا المأزومة اقتصادياً وداخلياً وأميركياً وجدت نفسها مبتعدة بخطوات معدودة عن الأميركي لكنها لم تزل تنتظر نتائج نهاية المسرحية إضافة إلى ظهور بداية تحول خليجي نفطي نحو التسليم بانتصار سوريه والإقرار بذلك والتطلع للفوز بحصص من إعمار سورية بواسطة روسية مباشره وهذا ما بدا واضحاً من زيارة وزير خارجية السعودية عادل الجبير ولقاء نظيره الروسي سيرغي لافروف في موسكو. قابله وزير الخارجية السوري وليد المعلم بالإعلان عن التماس بداية تغيير إيجابي في الموقف الخليجي، بقي على إسدال الستارة عرض آخر فصول المسرحية في منطقة إدلب.
أيضاً استعادت أميركا نبش مسرحية الكيماوي والخوذ البيضاء وحشدت بوارجها العسكرية البحرية في المتوسط مقابل الحشد الهائل للبوارج الروسية في محاولة إخضاع روسيا للتفاوض وليس للتصادم.
إذا التفاوض والدبلوماسية صارا بواسطة البوارج فهل تنجح دبلوماسية البوارج.
خبير روسي يقول لو تجمعت كل أساطيل أميركا فلن ينالوا منا ولا من سوريه شيئاً، ولن ننسى مسرحية العراق وليبيا ونهب الثروات لمصلحة أميركا وإبقاء روسيا خارج أي معادله أما اليوم فإن روسيا وسوريه على تفاهم تام بأن وقت الحساب قد حان وبعدم السماح لأي من تلك الدول بموطئ قدم في سوريه وأن أي حصص من إعمار سوريه يجب أن تمر عبر البوابة الروسية فقط.
نختم بتأكيد أنه لو تجمع العالم كله فإن أحداً في هذا الكون لن يكون بإمكانه وقف تقدم الجيش العربي السوري نحو إدلب وتحريرها بالكامل، أما بالمصالحة وإما بقتال الفصائل الإرهابية وإنهاء وجودها وصولاً إلى إسدال الستار على آخر فصول المؤامرة وإعلان الجمهورية العربية السورية خاليه من الإرهاب لتعود سورية الدولة المحورية المهمة التي قلبت كل المعادلات في المنطقة.